
مواعظ المفسرين(9)
قال العلامة الطاهر ابن عاشور: في تفسيره (3/218) لقول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
[سورة آل عمران: 130].
(وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض،
فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة،
ومنها ندب كالصّدقة والسلفِ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها،
وكذلك المعروف كُلّه، وذلك أن العادة الماضية في الأمم، وخاصّة العرب،
أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته.
والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها،
فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين:
للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين،
إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية،
لا باختلاف أحوال المتعاقدين،
فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف،
ولو كان المستسلف غير محتاج،
بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك،
وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم،
ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المناهي الشرعية.
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا،
فيكون تحريم الرّبا، ولو كان قليلاً، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات،
ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد.
ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا،
ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم،
أزمان كانت سيادة العالم بيدهم، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم،
فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة،
وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات،
ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين، دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون،
وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرّمه الله مبيح.
ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع،
وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال.
وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها. وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة
والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى).

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق