الخميس، 18 أغسطس 2011

( Palestine ) ماهر دلول .. طبيب يعزف لحنه الخالد .. للنشر

بسم الله الرحمن الرحيم

ماهر دلول : طبيب يعزف لحنه الخالد * .

---------------

   يغويك تواضعه بمزيد من التواضع . ويحملك زاده العلمي الطبي على ادارك ما للعلم من قيمة وأهمية . ويدفعك، كلامه الآسر، كي تتخلص، في الحال، من طوابير الكلمات المختزنة في تلافيف الذاكرة، التي تلقي بها، لحظة الطيش والعصبية، في وجوه الآخرين. هو دائم الضحك، والترنم، والاحتفال باللحظة التي كان يصنعها صناعةً متقنة، حتى تخال، أنه لم يُولد باكياً، وصارخاً، كبقة من ينتسبون للآدمية.  في عينيه عمق لا يسبر غوره إلا الذين حملوا رسالة كرسالته، أجل هو طبيب لا كبقية الأطباء .

فهو مدفوع من الداخل، كي يبدع الخطوة الطبية التالية أكثر من التي سبقتها. وهو مهموز من أعماقه الجياشة، بحب تخصصه العلمي، كي يشطب، بكلماته المعسولة، وببسمته الهادئة، وبوقاره الجميل، وبنصائحه الطبية الراقية، كي يشطب ما يعلو جبينك من غبار الخوف من المجهول المرضي . هو ماهر وله، في حياته، من هذا الاسم نصيب، وأي نصيب ؟! . ماهر هو في حياته الطبية، العلمية والعملية. وماهر هو في اقتباس المواقف الجميلة، التي تنعكس على صفحة حياته، كأنها مستمدة من نهر يفيض بالمحبة، والسماحة، والمسؤولية. فتراه، يحتفل كل صباحٍ بالقدوم إلى مستشفى الشفاء. ولو أنك سألته، لم كل هذه الغبطة التي تتقاطر من عينيك وأنت تيمم وجهك شطر العمل ؟! لأجابك بكلمات قليلة، كأنها خلاصة الحكم والتجارب :  العمل مقدس يا سيدي، وواجب، وفرض، وعبادة. ومن لا يتقن عبادته، ولا يخلص فيها، ولا يُقبل عليها بقلب عامر بالمحبة، ونفسٍ تفيض بالنشاط، كان نصيبها لا القبول من الله، بل الخسران المبين.

   يستلم عمله الصباحي أو المسائي، في مواعيده من غير تأخير أو تسويف أو هروب. وعندما يشارك زملائه، في الكشف على مرضى الأمس، تراه في الصف الأول، سبَّاقاً، وراكضاً نحو المرضى، كالريح المرسلة. يتفنن، كبستاني ماهر، بقليل من النصائح الصادقة،  في قطع كل الأوهام والوساوس التي قد تحاصرك من جهات مرضك وخوفك وتشتت أعصابك. إنسان هو وجراح. لكن بسمته الرقيقة التي كان يتعامل بها مع المرضى كعلاج، سبقت مبضعه الجراحي الرحيم. إنسان هو وطبيب. لكن إنسانيته النشوى بالشعور بالآخرين على أنهم، أصحاء قبل أن يكونوا مرضى، وعلى أنهم من لحم ودم قبل أن يكونوا في حاجةٍ ماسةٍ لاستشارته الطبية، هذه الإنسانية الناصعة، جعلته إنساناً أكثر من كونه طبيباً.

   حين تدخل عليه صباحاً، في مكان عمله بالمستشفى، وفي يديك الاستمارة الفارغة لتشخيص  حالتك المرضية. تُسلم عليه، فيرد عليك السلام بأحسن منه، وقبل السلام، تنظر إلى محياه البشوش، فتتخايل كأنك أمام فلقة من القمر المتزين بالجمال، والروعة، والهدوء .وعندما تبدأ في بث شكواك، تراه وقد أرهف إليك سمعه، وأصغى إليك بكامل جوارحه، حتى تظن في الحال، بأنه يصغي بغبطة وسرور، لا إليك، بل لمحاضرة طبية علمية غاية في الأهمية، ولا تلقيها أنت، بل أستاذ عريق في مجال الطب.  

وريثما، تُفرغ ما بجعبتك من الآلام، يحاورك كأنك تنتمي إليه بصلة القرابة أو الجوار، ويشرح لك عن أسباب حالتك المرضية، بسلاسة وسهولة، ويرشدك للعلاج بالصبر والاحتساب اولاً، قبل أن يدوِّن لك في " الروشتة ، أنجع العلاجات ".

   لو رأيته في الشارع، يبادرك التحية والسلام. فهو، لا ينظر للناس، من العدسة التي تقتل غروراً، بل من العدسة التي تشع نورا. عاليةٌ هي همته في كل الميادين. فترى أثاره الطبية الطيبة، مطبوعة في كافة ميادين الخير، فله في أسرته، وفي جيرانه حيث يسكن، أغاريدٌ من الخير والعطاء. وله في مسجده ابتهالات من المؤازرة والشعور بالمسؤولية. وله في حبه للوطن قصائد من الطراز النضالي البديع.

   قلة غير قليلة هم الذين يعرفونك يا دكتور معرفة الروح للروح . أما الذين عرفوك فما قالوا فيك إلا ما تستحق. وما كنت تستحق منهم إلا الثناء الجميل، والذكر الجميل، وطلب الرحمة المتواصلة لروحك الشفافة النيرة، التي لن تغيب عنا. فأنت رحلت وهذا صهيلك باقٍ فينا، وأنت رحلت وهذه أخلاقك النبوية تعمر قلوبنا، وأنت رحلت وما لك عندنا من فضائل، ومواقف لا يمكن حصرها، ولا عدها، تُزهر أعذب الأناشيد، كلما طافت أرواحنا قريباً من روحك المستقرة في ما تبقى لنا من ثواني ونبضات. وأما الذين فاتهم شرف التعرف إليك، فما كان منهم إلا أن قالوا فيك بحسب ما سمعوا عنك، وما تطرق إلى أسماعهم عنك، وعن شجاعتك، وعن رجولتك، وعن أخلاقك، وعن إخلاصك لعملك، وعن خدمتك لمن تعرف، ولمن لا تعرف، إلا أنك من أهل الخير، ومن صناع الخير، ومن رواد العطاء الإنساني الجليل.

   لقد كانت الفاجعة أكبر من الوصف، وهذا الألم المتناسل لا يمكن له أن يتوقف، إلا إذا علمنا أنك رحلت، هذا الرحيل المفاجئ، وأنت على أتم الاستعداد، وبكامل قواك الإيمانية، كما نحسبك ولا نزكيك، لهذا الصعود البهي، في وقت أبهى، وفي لحظات تشف فيها الأرواح، قُبيل ساعة الاتصال بخالق الأرض والسماء، حيث ساعة الإفطار وما للصائم من دعوة مستجابة.

ما كان أرحمك أيها الطبيب الرحيم، وما كان أروعك، وأبهاك، قلباً وفكرةً وعطاءً.

رحمك الله، وأنت تبتهج بلقاء خالق الأرض والسماء.

رحمك الله وأنت تسبقنا إلى مستقر رحمة الله.

رحمك الله وأنت تحتفي الآن، في عالمك السماوي البديع.

وحتماً، لنا لقاء معك، ذات قدرٍ لا بد لنا من تذوقه.

حتماً لنا لقاء.

--------

 

بقلم : أسامة جمال الدحدوح

زميل الطبيب الراحل بمجمع الشفاء الطبي ومن أحد جيرانه بحي الزيتون سابقاً.

Osamahe1@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق