في ذكرى نكبتنا: لتتفرغ الفصائل لإدارة معركة التحرير(2)
مصطفى إنشاصي
لا يمكن فصل مشاريع التسوية للقضية عن مسار الهجمة اليهودية-الغربية ضد الأمة والوطن لأنها كلها متداخلة وتعمل لنفس الغاية، فزرع العدو الصهيوني في قلب الوطن ليكون إسفين يفصل شرقه عن غربه، وجرثومة خبيثة في جسد الأمة لا شفاء منها إلا باقتلاعه جذرياً من قلبها، وحروب العدو الصهيوني ضد الأقطار العربية ومشاريع التسوية التي لن يكون آخرها مشروع أوسلو، ولا خطة خارطة الطريق الأمريكية ولا خطة فك الارتباط الصهيونية مع غزة ولا خطاب الضمانات الذي منحه جوج دبليو بوش لآرئيل شارون (وعد بلفور الجديد)، ولا التدخلات الغربية سواء بالعداء أو الصداقة أو الوساطة أو الحياد وغيرها كلها جزء من الهجمة لإذلال وتركيع الأمة على أعتاب العدو الصهيوني لفرض هيمنته الكاملة والشاملة على الأمة والوطن وتحويلنا إلى عبيد أو تروس في آلات مصانعه التي ليس لجشعها حدود.
لذا سيتضمن البحث توطئة تاريخية لأبعاد تلك الهجمة توضح أهمية دور العدو الصهيوني ومركزيته فيها وتضع مشاريع التسوية في سياقها الصحيح كجزء منها. ثم سنتناول مشاريع التسوية من خلال مسارين متوازيين؛ المسار الأول: يدرس قرارات جامعة الدول العربية ذات العلاقة بالشأن الفلسطيني في دوراتها وقممها التي عُقدت منذ تأسيسها إلى عام 1988 وأنها كانت تمهد للقبول بتسوية ما في نهاية المطاف مع الكيان الصهيوني! والمسار الثاني دراسة لتجربة منظمة التحرير الفلسطينية ولنكون دقيقين أكثر هو دراسة لتجربة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في منظمة التحرير، بعد أن انضمت إليها هي وفصائل العمل الوطني الفلسطيني للحصول على الشرعية السياسية بعد حصولها على شرعية البندقية، تلك التجربة التي اعترف (أبو إياد): بأن الذين عارضوا انضمام فتح للمنظمة خوفاً من فقدان فتح لنقائها الثوري كانوا على صواب! وكيف انتهت بها إلى القبول باتفاق أوسلو الذي مازالت آثاره لم تنتهي بعد!.
توطئة تاريخية
نود التأكيد من البداية على أن فلسطين ليست مستهدفة لذاتها ولكن لمكانتها الدينية عند أتباع الرسالات السماوية السابقة للإسلام، فكل منهم يعتبرها حقاً دينياً ودليل على صدق دينه ووعد الله لملته بالسيادة وقيادة العالم، وأن ملكيته لها يُعد توطئة لعودة المسيح المنتظر أو بعثه لأول مرة كما في العقيدة اليهودية، فمنها سيدير المسيح شئون العالم وتكون لأمته السيادة عليه. كما ترجع مركزية فلسطين في الصراع لما يحظى به موقعها من أهمية جغرافية وإستراتيجية عالمية. لذا فالكيان الصهيوني يمثل مركز الهجمة ضد الأمة والوطن وفلسطين تمثل مركز وطليعة الأمة ضدها. الكيان الصهيوني هو "أداة" الحفاظ على "أنظمة التجزئة" التي رسمت حدودها معاهدة سايكس- بيكو وأخواتها واقتلاعه واجب على الأمة لتتمكن من استعادة وحدتها ونهضتها. وعليه فالقضية ليست سياسية ولا قومية ولكنها قضية صراع بين أمتين وحضارتين متباينتين لم يهدأ منذ قرون طويلة، ومنذ أن تحقق الانتصار للحضارة الغربية وتحولت من موقف الدفاع إلى الهجوم بعد فشل الحصار العثماني الثاني لفينا عام 1683، و"تحول الغرب (إلى قوة كاسحة وصاحبة السلطان في العالم حتى أنه لم يعد أمام الآخرين (المسلمين) خيار، فإما التغريب وإما الهلاك"[1] كما يقول المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي). منذ ذلك التاريخ بدأ الغرب محاولاته الجادة والقوية لاختراق الأمة وفرض سيطرته وهيمنته الثقافية والفكرية والعسكرية عليها، وفرض مشروعه ونموذجه الحضاري على العالم كله. وبسبب فشل السلاطين العثمانيين في تجديد النموذج الحضاري الإسلامي وأخذ بعضهم ببعض مظاهر النموذج الحضاري الغربي، بدأت الأمة تفقد موقعها القيادي الدولي وبدأت الغرب تأخذ مواقعها طارحاً نموذجه الحضاري بديلاً عن نموذجنا.
دراسة واعية للتاريخ ومحاولة لفهم الواقع
لقد كانت الحروب الصليبية تجربة مهمة في تاريخ الأمة مليئة بالدروس والعبر والدراسة المتأنية الواعية للحروب الصليبية تجعلنا نقف أمام مقارنة واضحة المعالم بين واقع الأمة والوطن زمنها وبين واقعهما اليوم، "ولم تكن من التجارب المحدودة الأثر والنتائج، وترجع أهمية الحروب الصليبية بالنسبة لنا إلى أنها تشكل تجربة مهمة في تاريخ العروبة والإسلام جميعاً، وهذه التجربة ليست من التجارب العابرة والمحدودة الأثر والنتائج ، وإنما هي تجربة كبرى وخطيرة مليئة بالدروس والعظات"[2]. والدروس التي يمكن أن تُستخلص منها مقارنة بواقع الأمة اليوم كثيرة ولكننا سنذكر منها ما له علاقة بالدراسة فقط.
أهمية فلسطين لكسر الهيمنة الحضارية للأمة
بعد المائة عام الأولى من الحروب الصليبية تبين للصليبين والمسلمين من خلال معارك الصراع وأحداثه حقيقة مهمة ظلت تحكم معاركهم طوال المائة سنة الأخيرة منها خاصة الصليبيين في محاولة منهم لكسر الهيمنة الحضارية للأمة على العالم وتحول دون وحدة الوطن. هي: "أنه لا سبيل للعرب والمسلمين كي يلفظوا الكيانات الصليبية التي زرعتها أوروبا في فلسطين والشام إلا بتوحيد المشرق مع مصر والمغرب حتى يتم الالتفاف حول هذه الكيانات الصليبية فيضيق عليها الخناق فلا تجد سوى البحر المتوسط طريقاً جاءت عبره من أوروبا وعبره إلى أوروبا تعود، كما أنه لا سبيل أمام الصليبيين كي يثبتوا كياناتهم في الشام وفلسطين إلا بمنع قيام هذه الوحدة العربية وبأي شكل من الأشكال". ففلسطين هي الجسر الأرضي وهمزة الوصل التي تصل مشرق الوطن بغربه. وبمقارنة خريطة أورشليم التي قامت عام 1100م بخارطة الكيان الصهيوني خصوصاً من حيث قيام هذان الكيانان وتحقيقهما لعزل مشرق الوطن عن مغربه وإقامة حاجز يمتد من خليج العقبة إلى البحر المتوسط، ندرك وحدة الهدف ووحدة المخطط رغم اختلاف العصور والملابسات. وإذا أضفنا تلك المطالب الصهيونية في سيناء التي تريد تعميق الحاجز إلى جنوب سيناء حتى شرم الشيخ أدركنا أنهم يريدون إحكام العزل أكثر مما حاول الأولون وهو الأمر الذي يجعل الوحدة الأرضية للأمة مستحيلاً. وقد فطن أسلافنا إلى تلك المؤامرة لذلك رفض الملك الكامل أن يتنازل عن حصن الكرك والشوبك الموجود بين شمال خليج العقبة وجنوب فلسطين للصليبيين مقابل خروجهم من دمياط، لأنه يومئذ كان يقدم من التنازلات ما لا يؤثر على الإستراتيجية الإسلامية التي تهدف إلى وحدة الشرق والغرب، والإحاطة بالإمارات الصليبية من كل الجهات البرية لتجبرها على العودة من حيث أتت عبر المتوسط[3].
وذلك عندما قدم لهم عرضاً مغرياً للسلام، تمثل في: "منحهم بيت المقدس ويطلق أسراهم ويعيد الصليب الذهبي الذي كان صلاح الدين قد أنزله من فوق قبة الصخرة عقب استردادها، وكان الملك الكامل يظن أن القدس هي هدف الصليبيين فإذا ردها إليهم انتهى الصراع ولكنهم رفضوا العرض وأعلنوا أنهم يريدون سوريا ومصر[4] وذلك عندما طلبوا إلى جانب بيت المقدس حصني الكرك والشوبك فرفض، لأنهما لا يتحكمان فقط في قطع الطريق بين مصر والشام والحجاز ولكنهما يشكلان خطورة أكبر على مكة والمدينة المنورة إذا ما أراد الصليبيون الوصول إليهما وذلك عبر خليج العقبة والبحر الأحمر، وكذلك يهددوا منهما سواحل مصر الشرقية على البحر الأحمر، إلى جانب أن حياة الحجاج المسلمين تصبح تحت رحمتهم وكذلك القوافل التجارية الإسلامية بين شرق الوطن وغربه*. ولذلك أوصى لويس التاسع في وثيقته الخطيرة التي وضعها بعد خروجه من الأسر في دار ابن لقمان بالمنصورة: (6) العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية في المنطقة العربية تمتد حتى تصل إلى الغرب.
وهناك نقطة مهمة كثيراً ما يغفل عنها كتابنا عند استخلاص دروس الحروب الصليبية، هي التحالف الذي سعى إليه الغرب الصليبي مع المغول طمعاً في إدخال المغول في النصرانية. وإن كان البابا في ذلك الوقت قد فشل في إدخال المغول في الكاثوليكية فإنه قد اكتفى منهم بالتعاون من أجل هزيمة المسلمين وتدمير الإسلام. نفس الشيء يعيده هذا العصر بابا الفاتيكان مع اليهود! وكذلك النصارى الصهاينة "البروتستنت" الذين تحولوا خدماً لليهود على أمل أن يُسرّع ذلك في عودة المسيح الذي سيدخل اليهود في النصرانية.
فلسطين مركز الهجمة الغربية
أقلقت نظرية الفيلسوف الألماني (أوزوالد شبنجلر) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كون الحضارات تمر بدورات متعاقبة تنمو وتزدهر ثم تشيخ وتذبل وتندثر بال زعماء الغرب الذي كان يحتل معظم أراضي العالم القديم والجديد. كما زاد من قلق الغرب تصاعد مقاومة الشعوب المحتلة وإصرارها على التحرر من احتلاله واستغلاله لثرواتها واستعبادها. وقد صاحب تلك المقاومة فكرية وثقافية وسياسية جادة لتوحيد الأمة في إطار جامع واستعادة نهضتها. وقد آمن المؤرخ البريطاني (جيمس أرنولد توينبي) بنظرية شبنجلر ولكنه قال: "أن هذا لن يحدث للحضارة الراهنة-الغربية، والسبب في رأيه أن الحضارة الراهنة تعلمت من التاريخ وعرفت الخطر فهي سوف تتمكن من أن تتجنب تكراره"[5]. فما هو ذلك الخطر الذي عمل على تجنب تكراره؟!:
مؤتمر لندن وتقرير كامبل بنرمان
يُعتبر مؤتمر لندن عام 1905م أخطر عمل قام به المستشرقين الغربيين ضد الأمة والوطن فقد عقد المؤتمر بهدف تكوين جبهة من الدول الأوروبية ذات المصالح المتوافقة في العالم آنذاك، وهي: بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا وأسبانيا. وقد اتفقت على التعاون الودي فيما بينها وتأليف لجنة من خبرائها وكبار علماء التاريخ والاجتماع والزراعة والبترول والجغرافيا والاقتصاد، وأضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوروبيين ممثلين عن الدول الصليبية المشاركة فيه تتولى الدراسة والبحث في نمو مصالحها المشتركة. وقد كان الموضوع الوحيد المطروح للدراسة والبحث هو السؤال الذي طرحه (كامبل بنرمان) رئيس وزراء بريطانيا: "هل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون السقوط والانهيار، أو تُؤخر الاستعمار الأوروبي وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة استنفذت مواردها وشاخت معالمها بينما العالم الآخر لا يزال في شبابه يتطلع إلى مزيد من العلم والتنظيم والرفاهية"[6]. وقد حدد كامبل بنرمان الخطر الذي يهدد الحضارة الأوروبية بقوله: "إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا"[7].
بعد سنتين قدم المؤتمر نتائجه في تقرير سري إلى وزارة الخارجية البريطانية التي أحالته لخطورته إلى (وزارة المستعمرات البريطانية) التي أخفته، إلى أن نشره صحفي بريطاني صهيوني في معرض الدفاع عن فكرة (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين وتبرير إقامته كضرورة اقتصادية وسياسية واجتماعية لأوروبا ومصالحها وسيطرتها على الشرق[8]. وقد حدد التقرير موطن الخطر بأنه يكمن في الشعب الواحد الذي يعيش على الشواطئ الجنوبية والشرقية للشريان البحري الحيوي لتلك الدول وللتجارة العالمية-البحر المتوسط- والتواصل بين تلك الدول ومناطق احتلالها. لذلك كانت توصياته العاجلة: "ضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة إذ أن إقامة حاجز بشري قوي على الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث يشكل من هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة"[9]. ومن الوسائل التي حددها: "العمل على إيجاد التفكيك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول وخاضعة لسيطرتها وأوصى التقرير بشكل خاص على محاربة اتحاد هذه الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الاتحاد الفكري أو الروحي أو التاريخي وبضرورة إيجاد الوسائل العلمية القوية لفصلها عن بعضها بعض ما استطاع الاستعمار إلى ذلك سبيلا"[10].
[1] فهمي هويدي: جريدة الأهرام القاهرية، بتاريخ 22/3/1988، ص9 .
[2] سعيد عبد الفتاح عاشور "دكتور"، الحركة الصليبية،ج1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1978، ص3.
[3] عمارة" محمد، دراسات في الوعي بالتاريخ، دار الوحدة، القاهرة، 1980، الطبعة الأولى، ص99 ـ101.
[4] رجاء جارودي، فلسطين أرض الرسالات، مرجع سابق، ص208، حماد محمد ماهر، وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم الإسلامي، سلسلة وثائق الإسلام (5)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ-1982م، الطبعة الثانية، ص55.
* للمزيد يراجع(عاشور وعمارة).
[5] أحمد سوسة "دكتور": العرب واليهود في التاريخ، العربي للإعلان والنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، الطبعة الثامنة، ص 727.
[6] حسان علي الحلاق "دكتور": موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، رسالة ماجستير، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، 1980، ص 228.
[7] جلال العالم، دمروا الإسلام وأبيدوا أهله ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع الترجمة، القاهرة،ص69. حسان على الحلاق، موقف الدول العثمانية من الحركة الصهيونية، مرجع سابق، ص228.
[8] أحمد سوسة: مرجع سابق، ص 728.
[9] ملف وثائق فلسطين: الجزء الأول 637 ـ 1949، وزارة الإرشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات ، القاهرة، 1969, ص 153.
[10] حسان علي الحلاق "دكتور": موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، مرجع سابق، ص229.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق