بعد توقيع اتفاق المصالحة
أنصاف الرواتب والتهديد بقطعها.. زادت الأوضاع المعيشية سوءاً، وساهمت في التأثير على وضع السوق وحركة الشراء والبيع في المحلات التجارية
تحقيق/ إياد الحسني-برنامج غزة للصحة النفسية
في الثاني من تموز/ يوليو الجاري طالعنا مدير مركز الإعلام الحكومي، الناطق الرسمي باسم الحكومة في رام الله الدكتور غسان الخطيب، بخبر مفاده أن موعد صرف الرواتب عن شهر حزيران/ يونيو الماضي لم يحن بعد، وأنه في حال حدوث أي شيء غير طبيعي بهذا الخصوص فإنه سيتم الإعلان عنه رسمياً، كما طالعنا الخطيب نفسه في الثامن من حزيران الماضي بخبر مفاده "أن تعطيل تحويل الضرائب من قبل إسرائيل سيؤثر على وفاء السلطة بالتزاماتها، خاصة أن عوائد الضرائب تشكل حوالي ثلثي فاتورة الرواتب الشهرية لموظفي السلطة".
ولم يكن التصريح الذي نسب لعزيز أبو دقة المستشار المالي لرئيس الوزراء في الضفة الدكتور سلام فياض في العاشر من آيار/ مايو الماضي أنه "لا رواتب الشهر الحالي ولا حتى الأشهر المقبلة" الذي نفاه الخطيب في حينه، ببعيد عن جملة هذه التصريحات وتلك التي تخرج علينا بين الحين والآخر، وتساهم في إيجاد حالة من الإرباك الاقتصادي في السوق المحلي، والقلق النفسي لدى جموع موظفي القطاع العام وحتى الخاص الذي يعتمد جزء كبير منه على رواتب الموظفين".
ومن هنا يمكن القول إنه منذ خمس سنوات، لم يمر شهر واحد على موظفي السلطة الوطنية سواء كانوا مدنيين أو عسكريين أو حتى متقاعدين، إلا ولعبت الإشاعات التي تصدر من هنا وهناك في أعصابهم ما جعلتهم يعيشون أسوأ حالات القلق والترقب ليس على مصير راتبهم الشهري فحسب، بل وأيضاً على مصير مستحقاتهم المالية لدى السلطة أيضاً.
الشاب شادي (30 عاماً) من سكان حي تل الهوى جنوب مدينة غزة قال: "لم يكن لدي شقة سكنية بمفردي لأعيش بها أنا وزوجتي واثنين من أبنائي، بل اقتسم أنا وشقيقي الأكبر وزوجته واثنين من أبنائه شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن 150 متراً مربعاً، وكلما زاد عدد أفراد أسرتينا ضاقت الشقة علينا وزادت مشاكلنا مع بعضنا البعض، ما جعلنا نقترض جزءاً ونستدين الجزء الباقي لصب سقف خرساني جديد كلفته 36 ألف شيكل لإنشاء شقة إما لي أو لشقيقي ليعيش كل منا بمفرده".
ومنذ اللحظات الأولى التي أنهينا فيها صب السقف، بدأت الإشاعات والتي تحولت فيما بعد إلى معلومات عن الرواتب تتوارد شيئاً فشيئاً، فتارة إذا لم تُحوِّل إسرائيل عائدات الضرائب للسلطة لن تكون الأخيرة قادرة على دفع الرواتب، وتارة إذا لم تلتزم الدول المانحة، العربية منها والأجنبية بالإيفاء بالتزاماتها سيكون من الصعب على السلطة توفير رواتب الموظفين في موعدها الأسبوع الأول من كل شهر، إلى أن خرجت السلطة بتصريح سرعان ما تأكد وهو دفع نصف راتب للموظفين، والذي أعقبه تصريح آخر وهو أن السلطة لن تكون قادرة على دفع نصف الراتب الآخر أو حتى دفع رواتب الأشهر المقبلة، الأمر الذي جعلنا نعيش في حالة من القلق والإرباك الشديدين من إمكانية عدم قدرتنا على دفع ما علينا من مستحقات للبنوك لصالح المقاول الذي يمسك علينا شيكات ستصبح بين عشية وضحاها بدون رصيد، وسنصبح إما نصابين يلاحقنا المقاول عشائرياً، أو مطاردين تتقصى الشرطة أخبارنا لإلقاء القبض علينا وملاحقتنا قضائياً.
وسواء كان هذا أو ذاك، فقد دخل الموظفون جميعهم في معركة ليس لهم فيها ناقة أو جمل، وأصبحوا كغيرهم الآلاف من الموظفين الذين يعتمدون بالأساس على مثل هذه الرواتب سواء من سلطة رام الله أو سلطة غزة وعملوا على برمجة أوضاعهم المعيشية على نمط وسياسة اقتصادية معينة، أي خلل فيها يؤدي إلى كارثة لا تُحمد عقباها.
شعبان: الأزمة تشكل تلاعباً خطيراً في مشاعر الناس
وفي هذا السياق أكد خبير الاقتصاد والتنمية البشرية عمر شعبان، أنّ الأزمة المالية المصطنعة والمختلقة أثارت الشك لدى الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني الذي أدرك أن هذه الأزمة تشكل تلاعباً خطيراً في مشاعر الناس وتهديداً لاستقرار المجتمع سواء كان الاقتصادي أو الأمني أو الاجتماعي، قائلاً إن ما يؤكد أن هذه الأزمة مفتعلة وتُثير الشك والريبة، هي التصريحات المتوالية التي كانت تصدر عن رئيس الوزراء في الضفة الغربية الدكتور سلام فياض في كل مناسبة، بأن السلطة ستكون في حلٍ من اعتمادها على الدول المانحة بحلول العام 2013، أي بعد أقل من عامين فقط.
وتسائل شعبان عن كيفية تفسير الوضع الحالي في ظل هذه التصريحات، وعن أيهما يمكن تصديقه، مشيراً إلى أن التناقض الكبير بين تلك التصريحات والواقع الحالي يندرج ضمن الخداع السياسي الذي يجب أن يحاسب عليه القانون الرسمي والمسائلة الشعبية، "على حد قوله".
وقال شعبان وبالتالي فإن مجرد الربط بين استمرار دعم المجتمع الدولي وبقاء فياض رئيساً للوزراء أو وزيراً للمالية هو ربط لا يقل خطورة عن الضغوطات التي تمارس على السلطة والشعب الفلسطيني بعدم الربط بين استمرار إسرائيل في الاستيطان ومواصلة السلطة الفلسطينية لمفاوضات السلام الفاشلة، مبيناً أن اشتراط المجتمع الدولي الربط في الأولى، واشتراطه عدم الربط في الثانية هو مثال صارخ على ازدواجية المعايير.
وأضاف، إذا كان الرئيس محمود عباس والشعب الفلسطيني قد رفضا الربط غير الشرعي بين مواصلة الاستيطان ومواصلة مفاوضات السلام, فالأحرى بنا أن نرفض الربط غير الشرعي أيضاً بين بقاء سلام فياض واستمرار التمويل، وهاتان المسألتان تتعلقان بالسيادة واستقلال القرار الفلسطيني والكرامة الوطنية، وبالتالي لا يوجد هناك سبب واحد يجعلنا نتمسك بالسيد سلام فياض رئيسا للوزراء ولا حتى وزيراً للمالية، ولكن بالمقابل يوجد عشرات الأسباب والمبررات التي تستوجب رفض هذا الطرح بشكل كامل.
وأشار شعبان إلى أن التحويلات الضريبية المستحقة لنا على الحكومة الإسرائيلية والتي تم حجزها أكثر من مرة، ومن ثم تحويلها، ومن ثم حجزها من جديد هي نتيجة لعملية المقاصة بين مشترياتنا من إسرائيل ومشترياتهم منا.
وذكر أن ما حدث في الضفة الغربية منذ الانقسام في حزيران/ يونيو 2007 من ضخ هائل للدعم الدولي، كان يهدف بشكل أساسي إلى تعميق الانقسام وجعل خسارة المستفيدين منه كبيرة بما يدفعهم لاتخاذ مواقف ضد المصالحة، أي بمعنى آخر، إنها رشوة من المجتمع الدولي للبعض كي يقفوا ضد الوحدة الوطنية.
وقال إن تصريحات فياض الأخيرة حول وجود ديون على السلطة تبلغ 2 مليار دولار، وعلى رئيس الوزراء القادم أن يفكر بكيفية سدادها، يجعلنا نطرح سؤالاً هو لماذا لم يقل ذلك مسبقاً؟، ولماذا سمح لهذا الدين أن يتضخم؟، وأين تم صرف تلك الديون؟، ولماذا يُطلب من رئيس الوزراء القادم أن يتحمل وزرها؟، أليس ذاك تهديدا مبطنا معناه يا أنا يا حتخرب، وما هي الضمانات التي يمكن أن يعطيها لنا بأن استمراره في رئاسة الوزراء لن يصل بهذا الدين إلى أربعة مليارات دولار مثلاً؟.
نشوان: من المفترض وصول السلطة لمرحلة الاعتماد على النفس
مدير مركز الديمقراطية وحقوق العاملين المحامي كارم نشوان قال: "من المفترض أن تكون السلطة قد وصلت إلى مرحلة الاعتماد على الذات في قضية الرواتب، وعدم الاعتماد على الموارد الخارجية، خاصة وأن هناك موارد محلية كالضرائب والجمارك وغيرهما، ولكن لعدم وجود عدالة اجتماعية من جهة، وسوء إدارة من جهة أخرى، لم يتم استثمار أيٍ من هذه الأموال في إدارة مشاريع مدرة للدخل، لأنه إذا بقيَ الحال على ما هو عليه من الاعتماد على المساعدات الدولية، لن يكون هناك شعور بالأمان بالمطلق، وستبقى هذه الدول تتحكم في القرار السياسي الفلسطيني، بالإضافة إلى أنه لن يكون هناك أي نوع من الشفافية في وجود أموال في الخزينة من عدمه، وفي أي تجاه صُرفت هذه الأموال".
وأضاف نشوان أن المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة عما وصلت إليه أوضاع الموظفين الحكوميين، لأنه بدلاً من الضغط على إسرائيل لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، والإفراج عن أمواله المحتجزة من عوائد الضرائب والجمارك، قامت بمعاقبة شعبنا من خلال وقف المساعدات الدولية تحت ذريعة مقاطعة حكومة حماس وتضييق الخناق عليها، علماً بأن العقاب هو عقاب شامل وجماعي على الشعب الفلسطيني بأكمله، حيث أدى وقف المساعدات إلى إشكالية عدم انتظام الرواتب للعاملين في الوظيفة الحكومية، لأن مصدر هذه الرواتب يعتمد على المساعدات الدولية.
وذكر أنه ورغم أن المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية الأولى لفرضه سياسة العقوبات الاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني من جهة، وعدم ممارسته أي نوع من الضغط على إسرائيل لإنهاء الحصار، إلا أن السلطة الوطنية ممثلة في مؤسستي الرئاسة والحكومة تتحمل أيضاً المسئولية في إيجاد الحلول الملائمة والجذرية لهذه الإشكالية، لأن حق الموظفين الحكوميين في رواتبهم هو حق مشروع، ولأن السلطة أسهمت بشكل واضح في ارتفاع معدلات الفقر في إطار المجتمع الفلسطيني.
وبيَّن نشوان أن تأخر الرواتب أو وقفها بالكامل، سيضعف بالتأكيد حركة السوق الاقتصادية من حيث قوة وضعف عملية الشراء والبيع، مشيراً إلى أن حركة الشراء هذا الشهر كانت ضعيفة جداً مقارنة مع الأشهر الأخرى السابقة لعدم تلقي الموظفين الحكوميين الذي يعتمد عليهم السوق المحلي اعتماداً كلياً كامل راتبهم بل نصفه فقط.
وقال إن تلقي الموظفين أنصاف رواتب مثلها مثل الذي لم يتلقَّ أي شيء، لأن البنوك اقتطعت ما لها من أقساط على الموظفين، وشركة الكهرباء أيضاً، ناهيك عن تسديد فواتير الهاتف تلقائياً، بالإضافة إلى البقال والجزار وصاحب المعرض وغيرهم الكثير، وبالتالي من لديه طلاب في الجامعة ستكون عنده مشكلة في دفع الرسوم الجامعية، معتبراً أن سياسة البنوك في مثل هذه الحالة ليست عادلة بالمطلق، لأنها خصمت مستحقاتها الشهرية كاملة من الموظف البسيط الذي يتقاضى راتباً متدنياً، بنفس القيمة التي خصمتها من الموظف صاحب الراتب المرتفع دون التمييز بينهما، وهذا إجحاف كبير بحق الموظف البسيط الذي لم يتبقى له من نصف راتبه شيء للأكل.
وتابع نشوان، إننا دعونا السلطة دوماً إلى احترام حق الموظفين الحكوميين في تلقي رواتبهم كاملة وفي مواعيد محددة، نطالبها الآن أيضاً بسرعة الإيفاء بالتزاماتها تجاههم والإسراع في دفع الرواتب حتى يتسنى للموظفين العيش بكرامة، موضحاً أن الحكومة والرئاسة لم تعملا أي شيء لتخفيف العبء وحل مشكلة رواتب الموظفين، كما أنها لم تقدم أية حلول واقعية لحلها، الأمر الذي يثير السؤال حول دور وواجب السلطة تجاه رواتب الموظفين في حال استمرار سياسة العقوبات الاقتصادية.
وأوضح أن هناك تخوفاً من قبل الموظفين الحكوميين على مستقبلهم في ظل استمرار مشكلة انقطاع رواتبهم، وهذا التخوف مشروع، خاصة وأن التجربة السابقة أكدت على أن مستقبل رواتب الموظفين مرهون بمزاج الدول المانحة، مشيراً إلى أنه من الواضح أن أميركا تمارس ضغطها على اللجنة الرباعية وغيرها لاستمرار العقوبات الاقتصادية، ومن هنا نجد أن تخوفات الموظفين لها ما يبررها.
عبد العاطي: لأزمة الرواتب أثر كبير على المجتمع الفلسطيني
من جهته قال مدير مكتب الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان في غزة والشمال المحامي صلاح عبد العاطي، إن لأزمة الرواتب أثراً كبيراً على المجتمع الفلسطيني، سيما وأن المجتمع الفلسطيني عانى ويعاني من وضع اقتصادي مقلق جداً، خاصة مع ارتفاع نسبة البطالة وعدم توفر المؤسسات الاستيعابية وتزايد نسبة الفقر بين السكان، حيث تساعد الرواتب التي يتلقاها الموظفون في إنعاش الوضع الاقتصادي للمجتمع الفلسطيني لمدة أسبوع تقريباً وذلك بزيادة القدرة الشرائية لأسر الموظفين الذين تزداد حركتهم للشراء ولقضاء حاجاتهم الأساسية.
وأضاف عبد العاطي إن قانون الخدمة المدنية وملاحقاته التطبيقية الخاصة بالموظفين كالعلاوات والترقيات والعقوبات وما إلى ذلك، لا يوجد فيه شرط واحد يتحدث عن معاقبة الموظفين بقطع رواتبهم، بل يوجد في القانون ما يُسمى بالإجراءات الإدارية التي تتخذ بحق الموظف المخالف للقوانين، ولكن هذه الإجراءات تأتي بعد تشكيل لجان تحقيق، حيث يُمنح فيها الموظف حق الاعتراض والطعن.
وتابع، أما أن يُحرم الموظف من الراتب أو يتقاضى نصف أو ربع راتب، أو حتى يُفصل من الوظيفة أو يخضع لما يُسمى بالسلامة الأمنية، فهذا كله وغيره يعتبر انتهاكاً فاضحاً لحقوق الموظفين من قبل السلطة الحاكمة بغض النظر عن مسماها ومكان وجودها.
وذكر أن موظفي السلطة الوطنية الفلسطينية في المؤسسات المدنية والأمنية والاقتصادية والبالغ عددهم أكثر من 160000 موظف ويعيلون ما نسبته 30% من السكان، يواجهون الآن أزمة كبيرة لا مثيل لها تحتاج من السلطة الوقوف أمام مسئولياتها لتوفير الرواتب التي أدى انقطاعها إلى زيادة معاناة المجتمع الفلسطيني من الركود الاقتصادي حيث تفاقمت الأزمة الاقتصادية لتفوق الأزمات الاقتصادية السابقة وذلك نتيجة قلة المداخيل المالية وارتفاع معدل النفقات.
وبيَّن عبد العاطي أن الهيئة المستقلة في الضفة وغزة التي تراقب عن كثب مجريات الأمور وتتابع مع السلطة هذا الانتهاك بحق الموظفين، تلقت العشرات بل المئات من شكاوي الموظفين حول فصلهم من الوظيفة العمومية وقطع رواتبهم، موضحاً أنه حين مراجعة السلطة بذلك نتلقى إجابات مفادها أنه غير ملتزم بالشرعية، أي بالسلطة في رام الله، وهذا الإجراء غير قانوني وغير شرعي ويجب التوقف عن اتخاذه ضد الموظفين جميعهم، ولكن معظم الشكاوي لم يتم التجاوب معها.
أبو سرية: المعركة على فاتورة الراتب وطنية بالدرجة الأولى
وكان الكاتب والمحلل السياسي رجب أبو سرية ذكر في مقالة له بعنوان "الرواتب مسؤولية وطنية" أن السلطة الفلسطينية حاولت، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، أن تحصن خيار المواجهة الفلسطيني بتوفير البديل العربي لفاتورة الراتب للقطاع العام، وذلك في قمة بيروت عام 2002، ونجحت بالفعل في الحصول على قرار من القمة بدعم السلطة بمبلغ (50) مليون دولار شهرياً لتحقيق هذا الهدف، لكن لم تسجل السنوات العشر الماضية "التزاماً" فعلياً من معظم الدول العربية بهذا القرار القومي.
وأضاف أبو سرية أنه في هذه اللحظة الحاسمة، فإن حاجة السلطة لإغلاق "نقطة الضعف هذه" تبدو حاجة ملحة، وإلاّ فإنها ستضطر إما إلى الذهاب للمواجهة في أيلول وهي بحالة ضعف، ستنعكس سلباً على طبيعة القرار الذي سيصدر أو أن تتوقف عن متابعة الطريق خلال الأسابيع القليلة القادمة، سيما وأن إسرائيل فتحت معركة المال مباشرة بعد توقيع اتفاق المصالحة، وتحكمت بأموال الضرائب، ثم أثّرت بقدر ما على وتيرة الدعم الخارجي، فيما الرد الفلسطيني انحصر تقريباً بأمرين: الأول، الإبقاء مؤقتاً على حكومة فياض، والثاني، الضغط على المجتمع الدولي لإجبار إسرائيل على منح الفلسطينيين حقهم في أموال الضرائب المجبية منهم أصلاً.
وقال ليست المعركة على فاتورة الراتب إذاً داخلية ولا مرتبطة بجودة أو سوء الأداء المالي، لكنها معركة وطنية بالدرجة الأولى، لذا لا بد من تحمل الجميع مسؤولياته في الدفاع عن القرار السياسي للسلطة بالإصرار على المواجهة السياسية، ثم المسؤولية الجماعية بتوفير احتياجات المواطنين، واحتياجات عملية البناء الداخلي والاحتياجات العامة، وبالتالي لا يجوز مطلقاً أن تنظر القوى والفصائل إلى سلام فياض، على أن المعركة المالية، إنما هي معركته وأن تتركه يواجه الإسرائيليين وحده.
أبو شماله: الفصل التعسفي والتهديد بقطع الرواتب انتهاك للقانون الأساسي
بدوره اعتبر عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة "فتح" البرلمانية، النائب ماجد أبو شماله، أن الفصل التعسفي أو التهديد بقطع رواتب الموظفين، كما فعلت حكومة فياض، هو "انتهاك لحرمة القانون الأساسي"، مضيفاً أن مواد القانون الأساسي الفلسطيني نصت على حماية الموظفين العموميين من الفصل التعسفي، ووضعت مفاهيم راسخة تحافظ على حقوقهم، التي لا يجوز لكائنٍ من كان أن يعتدي عليها بأي شكلٍ من الأشكال، حتى لو كان يحمل صفة اعتبارية عليا.
وقال أبو شماله، في تصريحٍ صحافي مكتوبٍ وصل "أمواج" نسخة منه، "لا يحق لأحدٍ استخدام فزاعة الرواتب ولقمة العيش ليهدد الموظفين على شاكلة ما حدث من الحكومة في رام الله، حينما هددت بخصم أيام الإضراب من الموظفين الذين أضربوا ليومين في محافظات الضفة الغربية، أو ما يحدث مع موظفي محافظات غزة، والتي كان آخرها قطع راتب الموظف غسان جاد الله، نتيجة موقفه الرافض لقرار اثني عشر عضواً من اللجنة المركزية لحركة "فتح" بفصل زميلهم النائب محمد دحلان، رغم أن لجنة الرقابة وحماية العضوية في المجلس الثوري قالت في هذا القرار بأنه باطل ومخالف للنظام الداخلي لحركة فتح"، كما قال.
وتوجه النائب أبو شماله للمتضررين الذين تعرضوا للفصل أو التهديد بالتوجه إلى القضاء، داعياً زملاءه في المجلس التشريعي بالوقوف في وجه كل محاولات الاعتداء على القانون الأساسي وحقوق الموظفين.
زقوت: قطع الراتب أو وقفها يجعل الموظف يكره نفسه ويرغب في الانتقام
من جهته قال الأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية سمير زقوت إن لوقف أو قطع الرواتب عن الموظفين أثراً نفسياً كبيراً، وهناك فرق بين وقف الراتب لمدة محددة على أمل العودة للدفع، وبين قطع الراتب تماماً وفصل الموظف، ففي الحالة الأولى يكون هناك أمل، أما في الثانية فقد يكون الأمر أكثر صعوبة، والأمران في الحالة الفلسطينية التي نحللها تتعلق بمحاولة تدجين الموظفين، تدجين عقولهم من خلال ربط تفكيرهم بلقمة العيش وحظر التفكير والتساؤل في أي شيء آخر غير الرواتب، فتخفيض الرواتب أو قطعها عن موظفي غزة يعني جعل هذه الفئة في حالة من الترقب الدائم، وهذا يزيد التوتر والغليان في غزة, مما يجعل الموظف يكره نفسه ويرغب في الانتقام، ولكنه للأسف يوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه الذين يعيشون معه وفي محيطه المجتمعي، ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هم أضعف منه كزوجته وأطفاله، مما يزيد دائرة العنف، والمرأة تمارس نفس الدور تجاه أبنائها.
لذا يزداد شعور الموظف بعدم الراحة والاستقرار، وعدم القدرة على التغلب أو التكيف مع الظروف الجديدة.
وأضاف زقوت، من هنا اعتقد أن حجم هذا الضرر كبير لأنه يطال الموظف نفسه على المستوى الفردي والأسرة بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام، من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالموظف المستنكف محروم من العمل في غزة، ولذا فوقف أو قطع راتبه هو بمثابة إعدام معنوي له.
وذكر أن قطع الراتب قد يكون مقدمة لفقدان الوظيفة أو الفصل من العمل، وهذا الأمر صعب جداً من ناحية نفسية لأنه انتظار للأسوأ، وهذا الأمر واحد من أكثر الأشياء التي تصيب الإنسان بالإجهاد النفسي، وبالنسبة لبعض الأشخاص قد تنتهي بهم للإصابة بالاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب وغيرهما من الأمراض، وبالتالي يمكن أن تضر بصحتهم النفسية والجسدية، كما أن قطع الرواتب وتخفيضها وفقدان الوظيفة أو الفصل من العمل، هذه السلسلة من الإجراءات قد تشعر الموظف بعدم السيطرة على حياته، وهذا يمكن أن يؤدي إلى حالة من اليأس والحزن والنظرة المتشائمة عامة، ثم عدم اليقين بشأن المستقبل، وهؤلاء الأشخاص يضطربون ويشعرون بالخوف من عدم الاستمرار في العمل والحياة، وقد يفكرون بالانتحار أو الهجرة أو الانزلاق نحو الإدمان والسلوك المضاد للمجتمع .
وبيَّن زقوت أنه لا يعتقد أن الأثر النفسي السلبي سيزول بزوال أسبابه، فمواجهة أزمة تخفيض الراتب وقطعها وفقدان الوظيفة أو الفصل من العمل حتى وإن زال، يظل الإنسان في حالة من الترقب والقلق والانتظار، وقد يؤدي بالبعض إلى الإصابة الدائمة بما يعرف بالضغط النفسي أو القلق، وبالتالي تظل هذه الصدمة النفسية غالبة على نفسية الإنسان وسلوكه.
وأشار إلى أن هذا الأثر يمكن أن يزول تدريجيا بإعادة الإنسان للعمل وإشعاره بالأمان الوظيفي، فالعمل يشكل محوراً رئيسياً في حياة الإنسان، والعمل حاجة واستعداد يرتبط بجوهر الحياة نفسها, فالحياة لا تستقيم بدون العمل بالنسبة للفرد والمجتمع، لأنه من خلال العمل يحقق الإنسان ذاته وشخصيته ووجوده ويحس بالإنجاز والأهمية.
وفال زقوت إذا تحدثنا عن حجم الضرر النفسي على صغار الموظفين وكبارهم، نجد أنه يكاد يكون متشابهاً، فالموظف البسيط يفقد حياته إذا فقد عمله، لأن راتبه هو المصدر الوحيد للحياة الكريمة، وكذلك كبار الموظفين فإنهم يفقدون مصدر الدخل والمكانة الاجتماعية, ومن العوامل المهمة والمؤثرة الشعور بالظلم وعدم الحصول على الحقوق نتيجة لفقدان العمل.
وأوضح أنه يمكن للضغوط الاجتماعية أن تلعب دوراً سلبياً على الصحة النفسية للإنسان الذي يفقد عمله لأن الحياة المعاصرة بتعقيداتها المختلفة وتطوراتها ومتطلباتها تساهم في زيادة الضغط النفسي، خاصة على الذين يفقدون أعمالهم، فالإنسان الفاقد للعمل قد يضطرب من الناحية النفسية وبالتالي يفقد القدرة على العطاء، مؤكداً أن لقطع الرواتب أو تأخرها أثراً على حجم أداء الموظف لعمله الوظيفي، وذلك كون الاضطرابات النفسية التي تصيب هذه الفئة من الناس دون غيرهم تجعل أداءهم أقل.
ولفت زقوت إلى أن قطع الرواتب والفصل الوظيفي يغير من سلوك الموظف العام سواء مع أهل بيته أو في الخارج، وذلك لأن معظم هؤلاء الموظفين قد يصابون باضطرابات التكيف والتي تأخذ أشكالاً من القلق والاكتئاب والأعراض الجسمية والسلوكية، مما يؤثر على العلاقات الاجتماعية والزوجية والشخصية والمهنية، كما يستولي إحساس فظيع بالخوف على من يفقد عمله خاصة إذا كان رب أسرة.
وأضاف أنه يمكن القول أن أحد أهم أسباب الطلاق في فلسطين يرجع للبطالة، فالأبعاد النفسية والاجتماعية للبطالة تنحوا باتجاه الأخطار المرافقة لها، ومنها الإدمان والغرق في اللامبالاة، واليأس والإحباط والكآبة، وتصل أحيانا إلى حد الانتحار، أو العنف الذي ينصب على الزوجة والأولاد أو الهروب والهجرة تاركاً وراءه أسرة في مهب الريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق